اقتضت العادة منذ صغري أن أسمع القرآن الكريم من المسجد القريب من بيتنا، فقد اعتادوا من فيه أن يضعوا آيات من القرآن تتلى بمكبرات صوت كل يوم قبل صلاة المغرب لنفس القارئ. كان صوتا عذبا جميلا يطرق مسامعي كل يوم، ولا أعلم إن كانت عادة حسنة في الدين ولكن كان الكل ينتبه لهذا الصوت وكان اللغط والهرج ينقص كثيرا في حيّنا حتى أنني كثيرا ما أسمع أفواها تسكت أفواها أو تذكرها بأن القرآن يُقرأ فينقص التفوه بالكلام الذي لا يليق.
كبرت وكبر ذلك الصوت في أذني وأصبحت أحب كثيرا سماع القرآن ولو كنت لا افهم ولا اعي المعنى
حتى ظننت ان الانخراط في حلقات القرآن هي الفرصة الوحيدة لفهم معاني القران والاطلاع على معانيه الثرية
ولكن لم أجد في هذه الدورات غير تعلم تجويد مخارج الحروف وحفظ كلام الله عن ظهر قلب لكن دون الإلمام بالمعاني
ازداد شغفي بالقرآن وانخرطت في مدرسة قرانيه قريبه من المعهد العالي الذي كنت ادرس فيه
كان ذلك المعهد بمثابة عالم جديد كل ممنوع فيه مرغوب وكانت المدرسة القرآنية ملاذي من ذلك العالم المخيف.
كانت لحظه التحاقي بتلك المدرسة لحظه لا تنسى
مازالت تمر في ذهني لهذا اليوم وكأنه مقطع فيلم مصور بأدق تفاصيله أذكر جيدا المكان وأين جلست وكيف بدأت أقرأ وكيف هنأني الجميع ورحب بي
أذكر جيدا لحظة سماعي لآيات قرآنية هزت قلبي وتعلق فؤادي أكثر وأكثر بالقرآن وبدأت رحله البحث عن المعاني فكنت أغوص في المعاني والتفاسير فأشتري كتبا كثيرا ما تتجاوز صفحاتها المائتين فكنت حقيقة تفترلدي الرغبة بالقراءة وكان الدراسة الجامعية كثيرا ما تتعبني ولا أجد الوقت والجهد للتمعن والقراءة.
ولكن الفضل لله سبحانه وتعالى ان قذف في قلبي حب تلاوة القران ولو من غير تمعن وفهم دقيق وقذف في قلبي ايضا حب معلمتي التي منذ أن درست لديها ازداد شغفي للقرآن فكنت أتبعها أينما حلت كتلميذ صغير ذو خمس سنوات لتوّه يتعلم القراءة مع معلمه
فانتقلت معها من مدرسة إلى أخرى حتى استقر بي الحال وهناك بدأت بالاستقرار في دراسة القران من اول الكتاب المبين الى اخره واستغرق ذلك سنتين وانا اتلو واتعلم من معلمتي تلاوة القران على الوجه الصحيح.
وكنت أبحث في معانيه وأحاول جاهدة أن أطلع على كنوزه التي لا تنتهي فبدأت أدرس كتبا غيرت حقيقة تفكيري نحو معاني القرآن أبرزها كتاب الدكتور إياد القنيبي « متعة التدبر » وكتاب «أول مرة أتدبر القرآن » فضيلة الشيخ فهد سالم الكندريودكتور محمد الحمود النجدي
وبفضل من الله ومنة منه انخرطت بعدها في دورة لتدبر آيات القران وفهم معانيه مع شيخنا الفاضل بن فازداد تعلقي بالقرآن ورأيت من معانيه ما خفي عني لسنوات طوال
كانت الحصه تشمل شرح عشر آيات ولكن كل آية تأخذ نصيبها من التدبر حتى أدركت بعدها المعنى الحقيقي للترتيل وما يتضمنه من اساسيات مرتبطة جميعها بعضا ببعض من فهم وتلقى وتدبر وتأمل.
وأدركتحقيقة انه لا يتحقق المعنى العملي لترتيل القران كما امر نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الوجه الصحيح الا بدراسة كل هذه المستلزمات الخاصة به
وأصبح هاجسي الأول أن أتدبر القرآن وآياته وأنظر فيمرامي الأحكام ومعاني الكلاموأن أطرح على نفسي سؤالا علمني إياه أستاذي ومعلمي الشيخالأنداري
ما لهداية التي استخرجتها لنفسي؟ وفي كل مرة كان هذا السؤال يفتح باب حيرة لعدة تساؤلات أخرى
كيف لي ان أتدبر مليّا هذه الآية؟
أن أقيّم نفسي فيها ؟
فأتساءل على العبر التي يمكن أن أستخلصها و تكون فيها إفادة لي و لمن حولي.
و حقيقةً لما عرفت هذا المسلك، أدركت أن قصة النجاح مع القرآن لا يمكن أن تتحقق إلا بأخذ الكتاب بقوة في كل معانيه و آياته و الغوص جيدا في كل تفاصيله و البحث المكثف حتى يفتح الله لنا فتح العارفين.
وأدركت أن أعظم الأعمال التي يمكن أن يتقرب بها الإنسان لربه هي التأمل العميق والتدبر في كتابه.
فاقتعدت هذه الطريقة فيسّر الله لي ما كنت أصبو إليه وآمل من خير عظيم، ما زلت أتعلمه في كل حين. ومن الهدايات التي أتفاجأ بها في كل مرة.
وأشد مُنايا أن أتعلم القرآن الكريم بالعلم الصحيح الذي به أنزل على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
و في الختام، أتذكر قول ثابت البنان: » كابدت القرآن عشرين سنة و تنعمت به عشرين سنة ».
فأسأل الله لي و لكم أن يعلمنا من القرآن ما جهلنا و أن يذكرنا ما نسينا و أن يملأ قلوبنا حبا و تعلقا به مخلصين بهذا العمل لله سبحانه و تعالى وحده.
شكر خاص لكل من وضعهم الله في دربي كي أسلك هذا المسلك وأضع فيه أول خطوات لي في قصة نجاح مع تأمل وتدبر القرآن